بعض الكُتَّاب ذي الصَّبغةِ الإسلامية؛ إذا كتَبَ في التاريخِ الإسلامي، يجعلكَ تشاهدُ صورًا متحركة من الجنَّة؛ عُرضتْ في الأرض.. أبطالها من الملائكةِ على هيئةِ بَشر!
في المقابل.. بعضُ الكتَّاب العلمانيين، ومن يتحسَّسونَ من كلِّ ما يتعلقُ بالإسلام؛ لا يرىٰ في تاريخه؛ إلا لمعانُ السَّيف، والتعريض بالجواري الشُّقر في أروقةِ بلاطِ الملوك، والتكالبُ على الكرسي، وأنهار الدماء التي سُفكتْ في سبيلِ ذلك.. وكل ذلكَ في صورةٍ مغايرة للحقيقةِ والتاريخ.. وكأنه يتحدثُ عن حفنةٍ من الشياطين لا همَّ لهم إل ...
بعض الكُتَّاب ذي الصَّبغةِ الإسلامية؛ إذا كتَبَ في التاريخِ الإسلامي، يجعلكَ تشاهدُ صورًا متحركة من الجنَّة؛ عُرضتْ في الأرض.. أبطالها من الملائكةِ على هيئةِ بَشر!
في المقابل.. بعضُ الكتَّاب العلمانيين، ومن يتحسَّسونَ من كلِّ ما يتعلقُ بالإسلام؛ لا يرىٰ في تاريخه؛ إلا لمعانُ السَّيف، والتعريض بالجواري الشُّقر في أروقةِ بلاطِ الملوك، والتكالبُ على الكرسي، وأنهار الدماء التي سُفكتْ في سبيلِ ذلك.. وكل ذلكَ في صورةٍ مغايرة للحقيقةِ والتاريخ.. وكأنه يتحدثُ عن حفنةٍ من الشياطين لا همَّ لهم إلا الكرسي، وأفخاذ النَّساء، وتوطيد عناصر الخلود فوقَ كثيب من الجماجمِ باسم الفتح!
والحقيقة؛ أنَّ التاريخ البشري عمومًا؛ لا هذا ولا ذاك، والتاريخ الإسلامي من بابٍ أولى.. التاريخ الإسلامي يحمل في طياته كل تناقضاتِ وتقلباتِ الإنسان، فيه الوجه المشرق - وهو الغالب والأعم - وفيه الوجه المظلم، فليسَ من العدالةِ أن يُصوَّر كأنه خرقة بيضاءَ لم تُمَس، أو أنه ليلٌ مظلمٌ لم يُر فيه بصيصُ نورٍ على امتداده الطَّويل.
وتبقىٰ الكتابة التَّاريخية من أهمِّ الأمورِ التي ينبغي التنبُّه لها، أثناءَ القراءة فيها؛ لأنها تُسْهمُ في تشكيلِ رُؤىٰ القارئ، وتتحكَّمُ في كثيرٍ من قراراته وتوجهاته بناءً على النَّمط والطَّريقة التي يُقرأ بها.. فكم من أفكارٍ بُنيتْ بشكلٍ خاطئ؛ بسببِ قطعها من سياقها التاريخي.. أو التحكم بقراءتها بما يخدمُ فكرةَ الكاتب، وانسياقًا وراءَ هواه ورغباته!
أظهر الكل ..التقيتُ قبل فترةٍ مع كاتبٍ ومحقٍّقٍ شهير؛ قال لي:
لديَّ أعمال كتبتها وحققتها في مقتبلِ العمر، وبدايةِ الطَّلب، لا أرضىٰ عنها الآن، ولا أحثُّ على قراءتها، ولا أقولُ بما ذهبتُ إليه فيها.. وأرجوا من الله ألا يقبضني قبلَ أن أعيدَ النَّظر فيها، و إخراجها بصورةٍ مغايرة لما هي عليه..!
ثم قال لي:
وقد كتبتُ وصيةً لزوجتي؛ فيها براءة من كتبي.. وأوصيتها بإحراقها إن أنا متُّ قبل أن أقومَ بتقويمها وتعديلها.
ومثل هذه التراجعات مبثوثة مشتهَرة منذ القِدم، وإلى يومنا هذا.. ولا يقدم على ...
التقيتُ قبل فترةٍ مع كاتبٍ ومحقٍّقٍ شهير؛ قال لي:
لديَّ أعمال كتبتها وحققتها في مقتبلِ العمر، وبدايةِ الطَّلب، لا أرضىٰ عنها الآن، ولا أحثُّ على قراءتها، ولا أقولُ بما ذهبتُ إليه فيها.. وأرجوا من الله ألا يقبضني قبلَ أن أعيدَ النَّظر فيها، و إخراجها بصورةٍ مغايرة لما هي عليه..!
ثم قال لي:
وقد كتبتُ وصيةً لزوجتي؛ فيها براءة من كتبي.. وأوصيتها بإحراقها إن أنا متُّ قبل أن أقومَ بتقويمها وتعديلها.
ومثل هذه التراجعات مبثوثة مشتهَرة منذ القِدم، وإلى يومنا هذا.. ولا يقدم على المراجعة إلا من التزمَ الإخلاص، وأفلتَ من حظِّ النَّفس، وقصدَ الحق، وطلَبَ النَّجاة.. وألزمَ غيره وأتباعه الطريقة التي يرتضيها، بعد سنواتٍ ممتدةٍ من العلم والطلب.. وباتَ ما كتب قبل التراجع في حكمِ المنسوخ!
وقد أعتذرَ الدكتور سلمان العودة - فكَّ الله أسره- عن كتابه حوار هادئ مع العلامة محمد الغزالي.. وكان في غاية الشجاعة والجمال.. وهو يصفُ تلك المرحلة التي مرَّ بها.. ولو تتبعتُ من اعتذرَ أو تراجعَ عن بواكيرِ أعماله، وبعضِ أفكاره؛ لطالَ المقام..!
ما يهمني هنا:
- أنَّ التراجعَ والاعتذار عن الأخطاءِ العلمية أمرٌ وارد وطبيعي في السِّياق العلمي والمعرفي.
- أنَّ الغاية من هذه المراجعات والتراجعات؛ قصد الحق.. وهذا يلقي بظلاله على شداة العلمِ وطلبته؛ بأن يبتعدوا عن المواقف الحِدية في الأحكام، وتوسيع دائرة المعارف، والنأي عن تقديسِ الرجال، وألا يتعجلوا في نشْرِ ما حقه التريث، والابتعاد عن الغرورِ العلمي الذي يصاحبُ فترةَ الشباب.
أظهر الكل ..كلما ألمَّ بالإنسانِ شيءٌ؛ أو ضاقَ به الخناق.. تتبدى له الأمُّ تنظرُ إليه بعينٍ باكية، هي الصورة الأولى التي تُعرضُ قبالة وجهه.. وإذا وقعَ في مكروهٍ أو خشي مكروهًا، سمعتَه يقول: لا تخبروا أمي!
وإذا كانَ في مكانٍ بعيدٍ عنها.. وهاجَت به زوبعات الأيام في المكانِ الذي يقطنُ فيه.. قيلَ له: لا تخبرْ أمَّك!
- لماذا يخشىٰ الجميع من إخبارِ الأم..؟!
- الوحيدة التي ينتقلُ إليها أثر الألم أشد من صاحبِ الألم ذاته.
في مرةٍ من المرات تعرَّفتُ على فتىً في ريعانِ الحياة.. كان لا يخرجُ ...
كلما ألمَّ بالإنسانِ شيءٌ؛ أو ضاقَ به الخناق.. تتبدى له الأمُّ تنظرُ إليه بعينٍ باكية، هي الصورة الأولى التي تُعرضُ قبالة وجهه.. وإذا وقعَ في مكروهٍ أو خشي مكروهًا، سمعتَه يقول: لا تخبروا أمي!
وإذا كانَ في مكانٍ بعيدٍ عنها.. وهاجَت به زوبعات الأيام في المكانِ الذي يقطنُ فيه.. قيلَ له: لا تخبرْ أمَّك!
- لماذا يخشىٰ الجميع من إخبارِ الأم..؟!
- الوحيدة التي ينتقلُ إليها أثر الألم أشد من صاحبِ الألم ذاته.
في مرةٍ من المرات تعرَّفتُ على فتىً في ريعانِ الحياة.. كان لا يخرجُ من محنةٍ إلا ويدخلُ في أخرى.. كأنَّ الدنيا قررت أن تخوضَ معه حربًا بلا هوادة.. وكنتُ كلما التقيته.. ابتسم.. وقال لي: ماش الحال.. المهم.. لا تخبرْ أمي!
استمرَّ نزيفُ آلامه طويلًا.. واستمرت أمه في غفلتها عن حالِ كبدها المفطور في مكانٍ بعيد.. وبعدَ أن عجِز، وأثقله الألم، ولم يعد قادرًا على الكتم.. قرَّرَ أن يبوحَ لأمِّه بكلِّ شيء..!
وفي الليلةِ التي اتصلَ بها.. كانت تعالجُ الموت في إحدى مستشفياتِ المدينة.. كانت في النزْعِ الأخير؛ إثر جلطةٍ مفاجئة عصفتْ بها.. سمعوها تهمسُ لمن كانَ بجانبها: لا تخبروا ابني..!
أظهر الكل ..نافذةُ غرفتي تعملُ بشكلٍ مخلص، تؤدِّي دورها بانتظام؛ في الصباحِ تتحولُ إلى شاشةٍ كبرىٰ أرىٰ من خلالها الفضاءَ المنظور، والجمال المنشور. وفي الليل؛ تصيرُ إلى مِرآة، تحاولُ جاهدةً أن تُقرِّبَ المسافةَ بيني وبينَ نفسي..!
رؤيتكَ لنفسكَ في اللحظاتِ الأخيرة من اليوم، مخيفة؛ لأنَّ المِرآةَ التي أمامكَ تُعْرضُ عليها وقائعُ اللحظاتِ المزدحمة، أو هكذا تبدو، فتفِر من تذكُّرها حينًا، وتسعىٰ بلهفةٍ لرؤيةِ ما خلفها؛ إمعانًا في الهروب، لكنَّها تأبىٰ عليكَ ذلك. فما ترىٰ فيها إلا نفسك، ملامحك، وتفاصيل ص ...
نافذةُ غرفتي تعملُ بشكلٍ مخلص، تؤدِّي دورها بانتظام؛ في الصباحِ تتحولُ إلى شاشةٍ كبرىٰ أرىٰ من خلالها الفضاءَ المنظور، والجمال المنشور. وفي الليل؛ تصيرُ إلى مِرآة، تحاولُ جاهدةً أن تُقرِّبَ المسافةَ بيني وبينَ نفسي..!
رؤيتكَ لنفسكَ في اللحظاتِ الأخيرة من اليوم، مخيفة؛ لأنَّ المِرآةَ التي أمامكَ تُعْرضُ عليها وقائعُ اللحظاتِ المزدحمة، أو هكذا تبدو، فتفِر من تذكُّرها حينًا، وتسعىٰ بلهفةٍ لرؤيةِ ما خلفها؛ إمعانًا في الهروب، لكنَّها تأبىٰ عليكَ ذلك. فما ترىٰ فيها إلا نفسك، ملامحك، وتفاصيل صغيرة تطفو تحتَ حدقةِ العينِ ما بينَ فترةٍ وأخرى، وعينيك؛ تلكَ التي تجْبنُ عن النِّظرِ إليها، تخشىٰ على أسراركَ أن تُبعثَر.. ولا صوْنَ لها إلا بالهروبِ، والنَّظر صباحًا خلفَ زجاجِ النَّافذة!
أظهر الكل ..هل تدركُ ما معنى أن تجلسَ بالقربِ من النَّافذة، حينما تنوي الرحيل، وتترك خلفك بقايا الحنين، وبللَ الدموع التي أغرقت عينَ المحب؟!
لا أدري لماذا أشعرُ أنَّ جلوسي أمامَ النافذة؛ يمنحني قوة خفية لمواصلةِ الطريق، أستيعضُ به من وهدةِ الفراق.. أن تجلسَ إلى النافذة يعني أن تراقبَ المدن وهي تزهو، ثم تصغر، وسرعان ما تتلاشى! قربكَ من النافذة يخولكَ رؤيةَ ما لا يراه غيرك..!
في نافذةِ الطائرة رأيتُ المدنَ تحتي تتقدُ كالجمر، تسيلُ الأنوار منها إلى البحر، سيل متعرج ومهادن، من بعيد بدا لي البحر ...
هل تدركُ ما معنى أن تجلسَ بالقربِ من النَّافذة، حينما تنوي الرحيل، وتترك خلفك بقايا الحنين، وبللَ الدموع التي أغرقت عينَ المحب؟!
لا أدري لماذا أشعرُ أنَّ جلوسي أمامَ النافذة؛ يمنحني قوة خفية لمواصلةِ الطريق، أستيعضُ به من وهدةِ الفراق.. أن تجلسَ إلى النافذة يعني أن تراقبَ المدن وهي تزهو، ثم تصغر، وسرعان ما تتلاشى! قربكَ من النافذة يخولكَ رؤيةَ ما لا يراه غيرك..!
في نافذةِ الطائرة رأيتُ المدنَ تحتي تتقدُ كالجمر، تسيلُ الأنوار منها إلى البحر، سيل متعرج ومهادن، من بعيد بدا لي البحر لا يشبه بحرَ مدينتنا التي فقدتْ توهجها منذُ اجتياح! ولم يعد بحرها يستقبلُ سيل الأنوار، بل باتَ بقعة ظلام تحيطُ به الأسوار وبقايا الخراب!
في الطريقِ إلى صنعاءَ مثلًا، تمنحكَ النافذة فرصةَ مناجاةِ الجبال، التأمل في بنائها، التساؤلُ بدهشة عنِ الساكنينَ في شواهقها؟!
عندما أسافر أحبُّ أن أقعد بجانبِ النَّافذة، أشعرُ بالدفء، تصبح لي عين ثالثة، صحيح أنها تشحُّ عليَّ بقليلٍ من الهواء.. لكني أرتوي بلا تنفس.. النظرة البعيدة التي تتحصلُ عليها من نافذةِ السفر؛ ملأئ بشواهدِ الوجود!
كنتُ أقعدُ أمامَ النافذة؛ وأشعر لحظتها بارتياحٍ لذيذ، رغم الإرهاق الذي هدَّ جسدي.. شرعتُ في إتمامِ كتاب.. كانَ معلقًا ينتظرُ الخلاص، أتصفحُ ما استجدَّ في فضاءاتِ التواصل، وبينما أمارسُ كل تلكَ الأنشطة بشكلٍ ديناميكي؛ أشارَ أحدهم إلى المقعد الذي أقبع فيه.. أشرتُ إلى تذكرتي؛ عله أن يفهمَ أنَّ هذا مقعدي، ولا ينبغي إلا أن يكون لي. لكنه.. أكد بصرامة أني أجلسُ في المكانِ الخطأ، قمتُ غاضبًا والصمتُ يغلفني، لا حولَ لي ولا نافذة!
في المقعدِ الملتصقِ بمقعدِ النافذة؛ تشعرُ بوحشةِ السَّفر، وعناء المسافرين.. وإذا ما حاولتَ أن تتلصصَ على النافذة هروبًا من الكآبةِ المرتميةِ في أحضانِ الجالسينَ بجوارك؛ ينظرُ إليكَ صاحبها نظرةً غير مريحة، كأنكَ تتلصصُ عليه، لا على النافذة التي تبقيكَ في دائرةِ الوصل، والحركة، وتفتحُ لك شيئًا من الملهاة لا يعرفها العابرون معكَ في ذات الطريق! للجلوس قبالة النافذة معنىً آخر، تأخذُ شكلًا من أشكالِ التخلصِ من قيود الذاكرة، وحرارةِ الفراق، ولواعج الشوق!
أظهر الكل ..في فترةٍ من الزَّمن كنتُ مولعًا بقراءةِ الرسائلِ التي يتبادلها الكتَّاب، والأدباء، ومن برَّحَ بهمُ العشق.. لا يستطيعُ الزمن أن يوقفَ تدفقها عندَ المتلقي فحسب؛ وإنما تخرجُ كالنُّور مبددة حُجُز الزَّمان، تتلقفها الأنظار، وتشعر بمدىٰ الحنين الذي يدثرها، والصدق الذي يتدلى من كلِّ حرفٍ وكلمةٍ في بنيتها.
لعلكَ تتساءل، وأنتَ محقٌّ في ذلك:
لماذا خَفَتَ هذا النوع من التأليف؟! وإذا أطلَّ علينا كاتبٌ برسائله؛ وجدتها منزوعةَ الحنين، خاليةً من تباريحِ الشَّوق، فاقدة للروحِ التي تراها في كتبِ ا ...
في فترةٍ من الزَّمن كنتُ مولعًا بقراءةِ الرسائلِ التي يتبادلها الكتَّاب، والأدباء، ومن برَّحَ بهمُ العشق.. لا يستطيعُ الزمن أن يوقفَ تدفقها عندَ المتلقي فحسب؛ وإنما تخرجُ كالنُّور مبددة حُجُز الزَّمان، تتلقفها الأنظار، وتشعر بمدىٰ الحنين الذي يدثرها، والصدق الذي يتدلى من كلِّ حرفٍ وكلمةٍ في بنيتها.
لعلكَ تتساءل، وأنتَ محقٌّ في ذلك:
لماذا خَفَتَ هذا النوع من التأليف؟! وإذا أطلَّ علينا كاتبٌ برسائله؛ وجدتها منزوعةَ الحنين، خاليةً من تباريحِ الشَّوق، فاقدة للروحِ التي تراها في كتبِ الرَّاحلين!
والسببُ فيما أرى؛ ليسَ ضعفًا في الكاتب المعاصر، وإنما الرؤية المتكررة للآخَر، فإنَّ العينَ إذا ألفتَ النظر؛ فقَدَ القلبُ توهجه، وإذا خمدتْ جمرة القلبِ خرجَ المسطور فاقدًا للحياة!
بإمكانكَ أن تكونَ في طرفِ العالم، لكنَّ الشَّوق لم يعد الشوق الذي كانَ من ذي قبل.. لقد سحقت الأدوات الحديثة مسمَّى الاغتراب بالمعنىٰ السابق، فصديقكَ أو زوجكَ أو والديك؛ الجميع يكونُ معك في أدقِّ تفاصيلِ حياتك، وأنتَ هناك في مكانٍ بعيدٍ عنهم.. ولهذا، إذا فكرتَ أن تكتبَ رسالة لأحدهم؛ طغت عليكَ رؤية الواقع الافتراضي، على قدسيةِ الخيال الذي عاشه غيرنا عندما لم يكن بينهم رؤية ولقاء إلا من خلالِ القلمِ وعلى دكَّةِ رسالة!
تجدُ ذلكَ مثلًا في الرَّسائلِ المتبادلة بينَ غسان كنفاني وغادة السَّمَّان، ورسائل "مي زيادة" إلى "جبران" المجتبىٰ البعيد، ورسائل الرافعي إلى "مي" قريبة القلب، وبعيدة المنال! وقريب من ذلكَ وإن بملمحٍ آخر، وبصورةٍ مختلفة؛ الرسائل المحترقة التي كانت بينَ عمومِ القراء (المجهولين)، والأستاذ عبد الوهاب مطاوع!
بإمكانكَ أن تجدها في كتاباتٍ عديدة، سطَّرت الشوق والحنين، ولوعة الاغتراب، في سطورٍ تحملُ صورة مرسومة، تفيضُ بالحياة، أرادَ كاتبها أن تصلَ إلى من يشتاقُ ويحبُّ ويهوى! وبإمكانكَ أن تقفَ على شيءٍ من ذلكَ في الرسائل المتبادلة بينَ درويش والقاسم، ورسالة والد إلى ولده، وكذا رسائل تشيخوف الشهيرة إلى عائلته!
لقد أسهمت أدواتُ التَّواصل الاجتماعي في الحدِّ من هذا الضرب من ضروبِ الأدبِ بشكلٍ كبير.. لقد استطاعت أن تجعلَ البعيد بينَ يديك، لم تعد بحاجةٍ إلى النَّظر في النجومِ تسترقُ منظرًا يعيدُ لك شيئًا من الذِّكرى، لن تسعى في تذكر ملامحِ وجه من تحب، ونبش الذاكرة عن تفاصيل دقيقة لا يعرفها سواك، ولحظات الحنين التي كانت في لحظةٍ غابرة، كل ذلك باتَ مشاهَدًا؛ فلم تعد الحاجة ملحة لأن يفترَّ الكاتبُ ورقة يسكبُ فيها متاهاتِ السنين والأيام، وآلام الغربة، وأوجاعِ الرحيل!
بل إن مجرد الانحناء على ورقةٍ بيضاء لكتابة "رسالة" باتَ مشهدًا محذوفًا في مسرحِ حيواتنا المتسارعة.. لم تعد تلكَ الصورة قائمة، من يحمل القلمَ ويكتبُ على الورقِ في دجى الليل، ثم يجيلُ فيها النظر مرارًا، قبل الختم باسمه، لـ تصل زاهية إلى القلبِ المنتظِر!
ومع كلِّ ذلك؛
تبقىٰ كتابة الرَّسائلِ من أرقِّ وأعذبِ وأجملِ صنوفِ الأدب، وفيها متعةٌ لا تضاهى، وفي تفاصيلها كثيرٌ من الحنين، والبوح، وملامحِ الحزن، وعلى أسوارها تطفحُ دلائلُ الود والحب، وغليل الشوق، ولهفة اللقاء!
أظهر الكل ..في فترةِ الدراسة؛ كنتُ أذهبُ إلى صديقٍ للمذاكرةِ سويًّا، جاءَ من أريافِ المدينة، كانَ إذا تناولَ وجبةَ الغذاء لا يتناولُ الأخرى، همه إتمام الدراسة، والتفوق فيها، دونَ أن يثقلَ كاهلَ والديه!
في ليلةٍ من الليالي، رنَّ هاتفه، كانت أمه تخاطبه بصوتٍ مبحوح، تسأله عن حاله، وهل تناولَ وجبةَ العشاء؟!
بصوتٍ ضاحكٍ للحياة، ردَّ عليها: نعم نعم..
في المدينةِ وجبات لأول مرةٍ أراها في حياتي، يتفنَّونَ في إطعامنا كل يوم وجبة شهية.. ويقفونَ على خدمتنا.. الطعام هنا أنساني طعامكم الشهي...!
< ...في فترةِ الدراسة؛ كنتُ أذهبُ إلى صديقٍ للمذاكرةِ سويًّا، جاءَ من أريافِ المدينة، كانَ إذا تناولَ وجبةَ الغذاء لا يتناولُ الأخرى، همه إتمام الدراسة، والتفوق فيها، دونَ أن يثقلَ كاهلَ والديه!
في ليلةٍ من الليالي، رنَّ هاتفه، كانت أمه تخاطبه بصوتٍ مبحوح، تسأله عن حاله، وهل تناولَ وجبةَ العشاء؟!
بصوتٍ ضاحكٍ للحياة، ردَّ عليها: نعم نعم..
في المدينةِ وجبات لأول مرةٍ أراها في حياتي، يتفنَّونَ في إطعامنا كل يوم وجبة شهية.. ويقفونَ على خدمتنا.. الطعام هنا أنساني طعامكم الشهي...!
نظرتُ إليه متعجِّبًا؛ ضحكَ وقالَ لي:
لابدَّ من أن أقولَ لها ذلك، وإلا ستبيتُ في قلقٍ وهمْ!
لحظتها؛ صمت، ورحتُ أتأمل في داخلي ما حدثَ للتو، أعيدُ المشهد منذُ بدايته، يتضورُ من الجوع، يعيشُ لحظةَ اغتراب، وحيدًا، يتخلصُ من كلِّ ألمٍ عندما تهافته أمه، يُظهرُ وجهًا غير الوجه الذي هو عليه.. وكلُّ ذلك، حرصًا على مشاعرها من أن تؤذى! يخاف عليها الهمَّ والقلق! يخشىٰ أن تتقلبَ ليلًا وهي تفكِّرُ في حالِه المتعب..!
رأيتُ فيه ليلتها نموذجًا للفطرةِ النقية، يخشى من أن تؤذى مشاعرَها، وليبق ألمه محبوسًا بين جنبيه؛ فليسَ من العقل أن تطلقه لإيذاءِ من تحب!
كانَ يختنقُ همًّا، وينقبضُ قلبه حزنًا، لم يكن يجدُ أحدًا حوله، وما إن يسمعَ صوتها على الهاتفِ تسأل عن حاله بلهفةِ المحب، يشعر أنه لم يمتْ، ولم ينتهِ العالم، لقد كانَ يستمدُّ منها قوة عارمة على مواجهةِ الأيام!
تخرجَ من الجامعةِ بتفوق، عاد إلى كنف والديه، وانقطعتْ بيننا السُّبل، ولم يعد يصلني من أخباره إلا القليل، ثم انقطعَ القليل، وغاضَ خبره عني!
في الأيام الماضية؛ علمتُ أنه في دولةٍ أوروبية لدراسةِ الدكتوراة، وما أعلمه أيضا؛ أنَّ الأكلات الوهمية التي كانَ يحدثُ أمه عنها باتت جميعها في متناولِ يده!
أظهر الكل ..لم تندهشْ أمي من مرارةِ الشَّكوى التي جئتُ أحملها، ربتتْ على كتفي، واكتفتْ بقولها: "أنتَ قوي، قوي درجةَ أنْ تصبحَ يومًا ذا شأنٍ عظيم. فلا تبتئس!".
مضتْ بي الحياة كسيفًا، أدفعُ عني تهمةَ النَّقص، أحتقبُ ذنبًا بلا ذنب، وكلما وضعوني في فردوسِ الجحيم، كمكانٍ يليقُ بي، تخلصتُ منه، دونما التفات، كنتُ آمل أن أحيا سليمًا من أوجاعِ الذِّكرى، لقد أمضَّني الطريق، وأرهقتني مشقَّةُ البدايات، لحظةَ تفتحِ الحياة، و رأيتني أقفُ طويلًا أمامَ فخاخِ الأبواب الموصدة، لماذا تغلقُ في وجهي أتساءلُ وحدي دونما ...
لم تندهشْ أمي من مرارةِ الشَّكوى التي جئتُ أحملها، ربتتْ على كتفي، واكتفتْ بقولها: "أنتَ قوي، قوي درجةَ أنْ تصبحَ يومًا ذا شأنٍ عظيم. فلا تبتئس!".
مضتْ بي الحياة كسيفًا، أدفعُ عني تهمةَ النَّقص، أحتقبُ ذنبًا بلا ذنب، وكلما وضعوني في فردوسِ الجحيم، كمكانٍ يليقُ بي، تخلصتُ منه، دونما التفات، كنتُ آمل أن أحيا سليمًا من أوجاعِ الذِّكرى، لقد أمضَّني الطريق، وأرهقتني مشقَّةُ البدايات، لحظةَ تفتحِ الحياة، و رأيتني أقفُ طويلًا أمامَ فخاخِ الأبواب الموصدة، لماذا تغلقُ في وجهي أتساءلُ وحدي دونما مجيب!؟
في المرحلةِ التي تفصلُ بينَ جدارِ الطفولةِ والشَّباب، بدأتْ تصلني شظايا الوحشة التي كنتُ أشعرُ بها منذُ صغري، مهمَّش، لم أكن أعلمُ أنني المعني بهذا الوصف، حتى سمعتُ معلمي يدافعُ عن حقي في تمثيلِ المدرسة ضمنَ مناظراتِ المدراسِ الكبرى، ويأتي صوتُ المدير مدويًا؛ لكنَّه "مهمَّش"!
خجلتُ أن أعودَ إلى أمي باكيًا كما كنتُ أفعل منذُ ألم، انتحيتُ جانبًا من دارنا، وظللتُ أبكي يومها، بكاءً سخيَّا، لقد سمحتُ لعيني أن تثرثرَ دمعًا، كي تستريح، ويومها لم أكن أدري أنَّ أمي ترقبني عن كثب، لقد أحسَّت بعنائي، وشقائي، لقد أوجعها ضعفي، وهي التي تمنَّت أن أبقى قويًّا، فراحت هي الأخرى تثرثرُ بدمعٍ ممض، ورأيتني رابضًا عندَ أهدابها أجففُ بقايا الملح، وأنتظر.. أنتظرُ أن تغفرَ لي ضعفي.
ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ ـــ
نص من قصة "مهشم" التي شاركت بها في مسابقة مسك القيم.
أظهر الكل ..لقد حُبِّبَ إليَّ من دنياكم شُربَ الشَّاي، وإني لأجدُ فيه لذةً لا أجدها في مشروبٍ سواه.. وما رأيتُ شخصًا يعشقُ تناوله إلا وأحسستُ بقربه مني.. وإنه شرابُ العظماء، والبسطاء، كما وردَ عن أساطينِ الإدمان!
وفي الفترةِ التي قضيتها في مدينةِ عدن؛ كنتُ أشعرُ بانزعاجٍ شديد، فهم يتناولونَ "الحليبَ العدني" بشكلٍ جنوني، ولا يلتفتونَ إلى الشاي الأحمر، الكأسُ الثائر في وجه ثقالةِ الحليب!
كنتُ أخرجُ كل يومٍ للبحثِ عن مكانٍ يُقدِّم الشاي بالصورةِ التي ألفتها؛ فإذا وجدتُ بعدَ طولٍ بحث.. وجدتُه بلا ...
لقد حُبِّبَ إليَّ من دنياكم شُربَ الشَّاي، وإني لأجدُ فيه لذةً لا أجدها في مشروبٍ سواه.. وما رأيتُ شخصًا يعشقُ تناوله إلا وأحسستُ بقربه مني.. وإنه شرابُ العظماء، والبسطاء، كما وردَ عن أساطينِ الإدمان!
وفي الفترةِ التي قضيتها في مدينةِ عدن؛ كنتُ أشعرُ بانزعاجٍ شديد، فهم يتناولونَ "الحليبَ العدني" بشكلٍ جنوني، ولا يلتفتونَ إلى الشاي الأحمر، الكأسُ الثائر في وجه ثقالةِ الحليب!
كنتُ أخرجُ كل يومٍ للبحثِ عن مكانٍ يُقدِّم الشاي بالصورةِ التي ألفتها؛ فإذا وجدتُ بعدَ طولٍ بحث.. وجدتُه بلا روح.. يصنعونه بالماءِ الذي يُصنعُ به الحليب، وهنا تحدثُ الجناية على الشَّاي العظيم؛ مسمىً وحقيقة، ولهذا، عندَ تناوله تشعرُ أنكَ تتجرعُ ماءَ الحناء المنقوع، وليسَ شايًا أحمرًا يسرُّ المدمنين!
وكانَ من أحبِّ الشاي إلى قلبي؛ شاي "أم جاد" قدَّسَ الله روحها.. فهيَ والله تجيده بصورةٍ مدهشة.. وإني لأعرفُ صنعها من صنعِ غيرها من خلالِ شكله ورائحته.. وقد افتقدته منذُ فترة؛ نأملُ من الله لقاءً لا فرقةَ بعدها.
ثم أبدلني الله بقومٍ يشربونَ الشَّاي كما يشربونَ الماء، فكلُّ مكانٍ تذهبُ إليه تجده أمامك.. يتفنونَ في صنعه، يتأنقونَ في تقديمه.. وأنتَ تشربُ الشاي التركي؛ يخامركَ إحساسٌ بطعمٍ غريب، لذة من نوعٍ آخر، ولا زلتُ أتساءلُ عن الطريقةِ التي يصنعُ بها، علنا أن نقفَ على سرٍّ جميل!
أكتبُ هذه الثرثرة وأنا أحتسي كأسًا من الشَّاي، ثم كأسًا آخر، ورأيتُ من الواجبِ أن أشيدَ بهذا المشروبِ العظيم، والمدمنيينَ عليه.
أظهر الكل ..